حين يكون البيت كريمًا يكون الأبناء صالحين
إنسانية الإسلام في نظرته إلى الأسرة والمرأة (3)
للبيت أثرُه الحاسم في تكوين الإنسان الصالح، ويعدُّ المناخ العام مثل البيئة؛ فهو يؤثِّر في الإنسان من كل جوانبه، بطريقة شعورية وغير شعورية، وطريقة مباشرة وغير مباشرة، ومن هنا حَرَص الإسلام على حُسن اختيار الزوجة، فندب إلى أن تكون من بيت صالح؛ لأن العِرْق دسَّاس، وحذَّر من المرأة الحسناء الجميلة التي نبتتْ في منبت السوء، حتى ولو كان ظاهرها عاديًّا، كما أمرَنا باختيار بِطَانة الخير، وحذَّرنا من بطانة السوء؛ لأنها كنافخ الكِير (الحديد) الذي لا يُصِيبنا من نفخِه إلا بقايا الشظايا النارية، والروائحُ الكريهة الفاسدة.
وقد شاءت إرادة الله أن تسوق الخير لبيتِ (أم سَلَمة)؛ لأن زوجها (أبا سلمة) كان رجلاً صالحًا، ولأن (أم سلمة) قد جاهدتْ معه وتحمَّلت الكثير في سبيل الهجرة، ثم تحمَّلتْ بصبرٍ مأساةَ وفاةِ زوجها الصالح (أبي سلمة)، وإكرامًا من الله لها أَلْهَم نبيَّه الكريم محمدًا -صلى الله عليه وسلم- أن يطلب الزواج منها، مع علمه -صلى الله عليه وسلم- بأن (أبا سلمة) ترك لها عديدًا من الصِّبْية يحتاجون إلى الرعاية المادية والمعنوية، بل لعله لوجود هؤلاء الصبية ألهم الله نبيَّه أن يتقدَّم للزواج من (أم سلمة)، فلما علمتْ برغبة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الزواج منها، كان أول ما ذكرتْه هم هؤلاء الصبية الذين في كنفها، والذين لا بد أن ترعاهم، ولما علمتْ أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- يحرص على مشاركتها الأجر والثواب في رعايتهم وتربيتهم وكفالتهم، فَرِحتْ بالأمر كلَّ الفرح، ووافقت على الزواج برسول الله - صلى الله عليه وسلم.
ومن هؤلاء الصبية صاحبتُنا التي نخصها بهذا الحديث.
كانت (زينب) بنت أبي سلمة وأم سلمة (أم المؤمنين) قد ولدتْ بالحبشة يوم هاجر إليها أبواها (أبو سلمة وأم سلمة)، وقال آخرون: "ربما كانت طفلة يوم هاجر أبوها وأمها، وإنهما دخلا الحبشة وهي في رفقتهما"، ولا يمكن ترجيح أحد الرأيين؛ (كما يقول أستاذنا د/ حسن حبشي).
لكن دلالة هذا في الحالين أنها كانتْ صبية صغيرة يوم عَرَفتْ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وزادتْ هذه المعرفة الشريفة حين قضتْ (زينب) فترةً من حياتها في كنفه -صلى الله عليه وسلم- وفي بيته؛ حيث رَعَى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (أم سلمة) وأولادها بعد وفاة أبي سلمة وزواجه -صلى الله عليه وسلم- منها، ثم تزوَّجت (زينب) من (عبدالله بن زَمْعَة بن الأسود الأسدي)، وكان من أشراف قريش، وكان زواجها - بطبيعة الأمور - برعاية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكلُّ مَن رعاه الرسول -صلى الله عليه وسلم- ماديًّا، رَعَاه كذلك معنويًّا وإنسانيًّا.
وقد حَفِظتْ (زينب) عن النبي -صلى الله عليه وسلم- كثيرًا من الأحاديث النبوية الشريفة، ورَوَتْ عنه وعن أزواجِه؛ ومنهن: أمُّها (أم سلمة)، و(عائشة)، و(أم حبيبة)، وغيرهن - رضوان الله عليهن جميعًا - فقد كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- نورًا ومعلمًا لكل مَن حوله، ولكل مَن يُحِيطُون به، فكل أقواله وأعماله تشريع، وتربية، وهداية، ورحمة للعالمين.
وكانت (زينب بنت أبي سلمة) معدودةً في هذا الرَّعِيل من الفقهاء الذين يُرجَع إليهم وإليهن في الفقه.
لقد أفادها قُرْبُها العائلي والمكاني من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتخرَّجت في مدرسته الشريفة، وأصبحتْ موجهة ومفتية ومعلمة.
قال أحدهم: "كنا إذا ذكرنا امرأةً فقيهة في المدينة ذكرنا (زينبَ بنت أبي سلمة) - رضي الله عنها".
وقد شاركتْ - وهي امرأة - في حلِّ كثيرٍ من المشكلات الاجتماعية والعائلية، وكانت ملاذًا لكثيرٍ من أصحاب المشكلات، ومما يُروَى في ذلك أنه حدث أن غَضِب الصائغ - وهو (أبو رافع نفيع) - على امرأته، واشتدَّ الغضب بينهما فلم يجد إلا اللجوء إلى صاحبتنا الصحابية (زينب بنت أبي سلمة)، فوجد عندها الجواب الصحيح، وإنه ليقول في شأنها: "ذهبنا إلى (زينب)، وهي يومئذٍ أفقه امرأة بالمدينة"، وهذا يدلُّ على الدَّوْر الريادي والاجتماعي للمرأة المسلمة في صدر الإسلام، وما زالت المرأة المسلمة مدعوَّة للقيام بهذا الدَّوْر، بل إن الواقع الاجتماعي الأسيف الذي يعيشه المسلمون الآن يفرض على المرأة القيامَ بهذا الدور فرضًا لا يَدَعُ لها فرصة الاختيار.
وقد قامتْ (زينب بنت أبي سلمة وأم سلمة) بتربية أولادها تربيةً نبوية كريمة، مستقاة من مناخ النبوة التقيِّ، وقد جاهد ولداها لها جهادًا عظيمًا، وقدَّما الشيء الكثير في خدمة الدعوة الإسلامية، وقد جرى عليهما قضاء الله؛ فاستشهدا راضيينِ، وحُمِل الاثنان إلى أمهما، ووُضِعا بين يديها مقتولينِ، فاستعانتْ بالصبر، وقالت: "إنا لله وإنا إليه راجعون".
ولم تكن هذه اللمحة الدالَّة على قوة الإيمان، وقوة الصبر والثقة في الله والدار الآخرة، لم تكن شيئًا غريبًا بالنسبة لصحابية جليلة مثل (زينب بنت أم سلمة أم المؤمنين)، فهي أمر مستقيم كل الاستقامة مع البيت الذي نشأتْ فيه، والأبوين الصالحين اللذينِ تنتمي إليهما، والتربية التي عاشتْ في رحابها على يد رسول الله وإمام المتقين محمد -صلى الله عليه وسلم- الذي رعاها صبية، وظلَّ معلمًا لها وموجهًا لسلوكها على مستوى عمرها كله؛ إكرامًا لـ (أم سلمة) أم المؤمنين، وزوجة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ورضي الله عن (زينب بنت أبي سلمة وأم سلمة)!
منقول للفائدة