شهر رمضان شهر مبارك تضاعف فيه الحسنات، وتمحى السيئات, وتعتق فيه الرقاب، من صامه إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه كما ثبت ذلك في الصحيح1, والصيام شأنه عظيم عند الله - تعالى - فكما ثبت الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((قال الله: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنَّة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم, والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك, للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح، وإذا لقي ربه فرح بصومه))2.
ومن أبرز خصائص وأسماء شهر رمضان أنه شهر الصبر كما في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((صوم شهر الصبر وثلاث أيام من كل شهر؛ صوم الدهر))3، والصبر يعني التحمُّل وعدم الإسراع في الجهالة؛ وقد بـيَّن النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - أهمية الصبر خلال شعيرة الصيام وأمر باجتناب صفة الغضب الذميمة فقال مشيراً إلى ذلك: ((الصيام جُنَّة، فلا يرفث ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم - مرتين -، والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله - تعالى - من ريح المسك يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي، الصيام لي، وأنا أجزي به، والحسنة بعشر أمثالها))4، وهذا غاية الأدب وحسن الخلق, فإنه يُذَكِّر نفسه بأنه صائم, ويُذَكِّر المعتدي بأنه صاحب أدب، وأنه إنما امتنع عن الرد على سبه لأنه صائم، إذ السباب والشتم مُذهِبٌ للأجر، وأرشد - صلى الله عليه وسلم - من طلب منه الوصية إلى ذلك كما في الصحيح من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رجلاً قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - أوصني؟ قال: ((لا تغضب)), فردد مراراً، قال: ((لا تغضب))5, وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكثر من دعاء: ((اللهم إني أسألك كلمة الحق في الغضب والرضا)) رواه أحمد6، فإن الغضب إذا اعترى العبد منعه من قول الحق أو قبوله، وقد شدّد السلف الصالح - رضوان الله عليهم - في التحذير من هذا الخلق المشين فها هو علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - يقول: "أول الغضب جنون، وآخره ندم، وربما كان العطب في الغضب"7، ويقول عروة بن الزبير - رضي الله عنهما -: "مكتوبٌ في الحِكم: يا داود إياك وشدة الغضب؛ فإن شدة الغضب مفسدة لفؤاد الحكيم"8، وقال بعضهم لابنه: "يا بني لا يثبت العقل عند الغضب، كما لا تثبت روح الحي في التنانير المسجورة، فأقل الناس غضباً أعقلهم"9، وقال آخر: "ما تكلمت في غضبي قط بما أندم عليه إذا رضيت"10.
والغضب سبب في الظلم والجهل وذلك لأن الإنسان إذا غضب احمرت عيناه ووجهه، وفقد وعيه فلا يعي ما يقول, ولذلك نُهِيَ عنه.
وحمل الجمهور النهي على التحريم كما قال ذلك الحافظ ابن حجر - رحمه الله -11, وقال ابن عبد البر - رحمه الله -: "قوله: فإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم ففيه قولان:
أحدهما: أن يقول الذي يريد مشاتمته ومقاتلته إني صائم، وصومي يمنعني من مجاوبتك، لأني أصون صومي عن الخنا والزور، والمعنى في المقاتلة مقاتلته بلسانه، وروى أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه))12.
والمعنى الثاني: أن الصائم يقول في نفسه: إني صائم يا نفسي، فلا سبيل إلى شفاء غيظك بالمشاتمة، ولا يعلن بقوله إني صائم لما فيه من الرياء، واطلاع الناس عليه، لأن الصوم من العمل الذي لا يظهر، وكذلك يجزئ الله الصائم أجره بغير حساب"13.
ومن الصفات التي امتدح الله بها عباده المؤمنين في كتابه الكريم كظم الغيض، والعفو عمن صدر منه الجهل قال - تعالى -: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}14، فهذه الآية تشير إلى أن الناس ينقسمون إلى ثلاث مراتب: الأولى: من يكظم غيظه، ويوقفه عند حده، والثانية: من يعفو عمن أساء إليه، والثالثة: من يرتقي به سمو خلقه إلى أن يقابل إساءة الغير بالإحسان إليه.
وحيث أن رمضان قد هبَّت نسائمه، وفاض عليله؛ فهذه دعوة صادقة منا إلى التحلي بخلق الحلم في هذا الشهر الكريم، والابتعاد عن خلق الغضب فإن الشيطان حريص على أن يفسد عبادة الإنسان.
نسأل الله - تبارك وتعالى - أن يعيننا على الالتزام بالأخلاق الفاضلة, ومجانبة الأخلاق السيئة, والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.